د.زكريا حمودان يكتب: القمح الروسي مصدر أساسي لغذاء المصريين
في الثلث الأخير لشهر سبتمبر/ أيلول الماضي، أوردت وكالة “بلومبرغ” نقلاً عن أشخاص مطلعين، تقريراً عن اعتزام الحكومة المصرية استيراد ما يقرب من نحو نصف مليون طن من القمح من فرنسا وبلغاريا، وأن ذلك يندرج ضمن مساعي الحكومة المصرية لتنويع مصادر توريد القمح.
وقد ألمح تقرير “بلومبرغ” الى أن القرار المصري أتى رداً على رفض روسيا توريد القمح إلا وفقاً لأسعار تحددها ولا تتناسب مع إمكانيات الموازنة المصرية.
إشارات مضطربة
مطلع الشهر نفسه، أعلن وزير التموين المصري علي مصيلحي عن اتفاق بين الهيئة العامة للسلع التموينية في مصر، المسؤولة عن استيراد القمح، وبين روسيا على شراء 480 ألف طن من القمح الروسي، وبسعر يبلغ 270 دولار للطن الواحد.
وأشارت وكالة “بلومبرغ” في تقريرها الى هذا السعر هو أدنى من السعر الذي تريد الحكومة الروسية تطبيقه. بعدها بأيام قليلة، أعلنت الحكومة المصرية عن السماح لشركة تجارة المحاصيل سولاريس “Solaris” بخيار الاستيراد من أي بلد.
تستورد مصر، وفق “المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية”، سنوياً 12 مليون طن من الحبوب للقطاعين الحكومي والخاص. وكانت تعتمد على روسيا وأوكرانيا في تغطية حاجتها من القمح.
ويشير المركز في تقرير له عن انخفاض واردات مصر من القمح عام 2022 بنسبة 18.7 % أي 9.5 طن في ظل ارتفاع الأسعار عالمياً وتأثيرات الأزمة الأوكرانية. وهذا الرقم هو الأدنى منذ عام 2013.
في مارس/ آذار 2023، أعلنت الحكومة المصرية عن الانسحاب من اتفاقية تجارة الحبوب الأممية التي وقعت عليها 35 دولة عام 1995 لاعتبارها أنها لا تنطوي على قيمة مضافة. فالاتفاقية تركز على توفير مجال آمن للحبوب، واعتماد الشفافية بين الدول المصدرة والمستوردة لضمان استمرار السوق.
لكن عدداً من خبراء الاقتصاد المصريين أشاروا الى أن مصر تدفع رسوم الاشتراك في الاتفاقية بالدولار في الوقت الذي تسخر هذه الاتفاقية من أجل تحقيق مصالح الدول الكبرى على حساب الدول النامية. وحسب تقرير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية فقد أسهم ارتفاع أسعار الحبوب في زيادة عجز الموازنة العامة وتراجع احتياطات العملة الصعبة، مما أدى الى انخفاض سعر صرف العملة المحلية بنحو 24 %، ودفع ذلك بالحكومة المصرية الى رفع أسعار الفائدة من 14.5 % الى 18 %.
روسيا المصدر الأول
تعد روسيا أكبر مصدر للحبوب في العالم وفق بيانات سنوات ما قبل الأزمة الأوكرانية، إذ تستأثر لوحدها بنحو 18-20 % من حجم الصادرات العالمي للحبوب، في حين تحتل أوكرانيا المركز الخامس بنحو 7%. أي أن القمح الروسي والأوكراني يشكلان ربع حجم الصادرات العالمي بنحو 25%.
وتستأثر الدول العربية بأكثر من 38 % من القمح الأوكراني، أي أكثر من ثلث سلة القمح الأوكرانية.
فتأتي مصر في المركز الأول (10 %)، الجزائر (3.3 %)، اليمن (2.2 %)، المغرب (2 %)، السعودية (1.6 %)، مما يعني بأن الدول العربية هي الأكثر تأثراً بتراجع صادرات القمح الأوكراني.
وحسب بيانات وزارة الزراعية الأوكرانية الأخيرة، تقدر أن يبلغ إنتاجها من الحبوب لعام 2023 نحو 56 مليون طن، بزيادة طفيفة عن عام 2022 البالغ 55 مليون طن، إنما مع انخفاض كبير عن عام 2021 البالغ 86 مليون طن.
تجدر الإشارة الى أن إحصائيات الحبوب تتم وفق طريقة موسمية، يبدأ في يونيو/ حزيران ويستمر حتى الشهر نفسه من السنة التالية، فيصبح الكلام عندها عن إنتاج موسم 2022-2023 وهكذا.
في المقابل، يقدر الخبراء الروس أن يصل حجم صادرات القمح الروسي لعام 2023 الى 44.3 مليون طن، مقابل 33.4 مليون طن في العام الماضي. وحسب الوثائق الرسمية، فإن القمح الروسي يغطي نحو 80 % من واردات القمح في مصر. وهي تأتي في المركز الأول في واردات مصر من الحبوب.
وحسب تقارير لوزارة الزراعة الأميركية ووكالة “بلومبرغ”، فإن مصر عمدت الى تنويع استيرادها من أجل تغطية النقص الأوكراني، ويشير تقرير لـ”بلومبرغ” في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، الى أن ورادات القمح الروسي ارتفعت عام 2023 لتصل الى تغطية 90 % من حجم واردات القمح الإجمالية.
واحتلت فرنسا المركز الثاني بنحو 1.2 مليون طن، ومن بعدها رومانيا وبلغاريا، في حين خرجت أوكرانيا من كونها أكبر موردي القمح لمصر.
علاقة استراتيجية وأرقام
كشف تقرير لـ”اتحاد مصدري الحبوب والقمح” في روسيا في 6 أكتوبر/ تشرين الأول عن قائمة أكثر 5 بلدان شراءً وطلباً للحبوب الروسية حول العالم خلال الربع الأول من العام الزراعي 2023-2024.
وأظهر التقرير أن مصر احتلت المركز الأول بـ2.031 مليون طن، بزيادة بنسبة 9.1 عن العام الزراعي السابق 1.862 مليون طن. واحتلت تركيا المركز الثاني بـ2.057 مليون طن، ثم إيران التي كانت في الصدارة في العام السابق، والسعودية وليبيا.
كل الأرقام السابقة تظهر أن مصر زادت من حجم وراداتها من القمح الروسي لا العكس، وأن الدافع لتنويع دول الاستيراد نابع من الرغبة في تعويض نقص الحبوب الأوكرانية، والذي تساهم فيه الدول الكبرى بشكل أساسي من خلال غياب عدالة التوزيع للقمح الأوكراني، فتسارع تلك الدول وخاصة دول الاتحاد الأوروبي الى تأمين احتياجاتها، وكذلك احتياجات دول الاتحاد من القمح، دون إقامة وزن لاحتياجات الدول النامية وخاصة أفريقيا، ومدى تأثير نقص الحبوب في التسبب في حصول مجاعات على مستويات واسعة.
أكثر من ذلك، فقد نفى وزير التموين المصري عل مصيلحي في 27 سبتمبر/ أيلول بشكل قاطع ما أودرته وكالة “بلومبرغ” عن خطط لاستبدال القمح الروسي بشحنات من بلغاريا أو فرنسا وأكد أن “الخبر عار عن الصحة”.
وأضاف في حديث لـ”روسيا اليوم” أن “علاقتنا (مصر) مع روسيا استراتيجية، وتعاملنا التجاري يسير معها على قدم وساق. كما أنه تربطنا بها علاقات تجارية وطيدة”. كذلك أكد مساعد وزير التموين المصري ورئيس بورصة السلع إبراهيم عشماوي على ما قاله وزير التموين، وأشار الى أن التنويع هو لتعويض الفجوة في واردات القمح الأوكراني.
أيضاً قال مصدر حكومي مصري في حديث لموقع المنصة المصري أن “روسيا نجحت في احتواء جانب كبير من طلبات مصر من القمح، وتعويضها وبأسعار مناسبة جداً عن نقص الكميات التي كانت تصل من أوكرانيا ورومانيا”.
وبين المصدر أن الحكومة المصرية تحصل على القمح الروسي بسعر 270 دولار للطن الواحد، شاملاً تكاليف الشحن المقدرة بنحو 15 دولار للطن. في حين يبلغ سعر طن القمح الأميركي وكذلك الأسترالي نحو 330 دولار، بينها تكلفة الشحن البالغة نحو 70 الى 80 دولار للطن.
علاوة على قرب المسافة، حيث يستغرق شحن القمح الروسي من 3 الى 5 أيام لا أكثر، مقابل فترات زمنية أطول بالنسبة للقمح الأميركي أو الأسترالي أو أي دولة أخرى.
CNA– مقال بقلم،، د.زكريا حمودان، مدير المؤسسة الوطنية للدراسات والاحصاء في لبنان