أحمد الألفى يكتب: “لوغاريتم” المرتبات
يتحدد الأجر أو المرتب بناء على ثلاثة عوامل هى المؤهلات العلمية والمهنية وسنوات الخبرة والكفاءة ، هذا فى حالة وجود سوق طبيعى ومتوازن للعمالة أى غير مختل، ومن أهم مظاهر الإختلالات فى سوق العمل وجود فائض فى عرض العمالة أكبر من الطلب عليها، وهنا تنخفض معدلات الأجور والمرتبات، أو وجود نقص أو عجز فى عرض العمالة أقل من الطلب عليها ، وهنا ترتفع معدلات الأجور والمرتبات إعمالاً للمنطق الإقتصادى المتمثل فى قانون الطلب والعرض .
حيث نجد مستوى الأجور أكثر إرتفاعاً فى الدول ذات الندرة السكانية ، بينما يكون أكثر إنخفاضاً فى الدول ذات الكثافة السكانية الكبيرة ، ومن بينها مصر، هذا بشكل عام ، أو من منظور إجمالى.
إذن لا توجد علاقة مباشرة بين الأجر ومستوى المعيشة أو تكاليف الحياة طبقاً للمنطق الإقتصادى ، ولكن كلما كان الأجر مناسباً لمستوى المعيشة كلما قلت حدة التوترات الإجتماعية والسياسية ، لذلك يتدخل المشرع فى معظم الدول بصرف النظر عن فلسفة نظامها الإقتصادى لتحديد حد أدنى للأجور يكفل حياة معقولة للعامل ، وذلك إعتماداً على طبيعة علم الإقتصاد كأحد العلوم الإجتماعية ذات الإرتباط والتأثير الوثيق على كل من السياسة والمجتمع.
وما كان ظهور النقابات العمالية وتطورها بعد الثورة الصناعية الأولى إلا محاولة سياسية وإجتماعية جادة لعدم إطلاق العنان للمنطق الإقتصادى وحده فى تحديد الأجور، والذى أفرز ظاهرة البطالة التى يعانى منها العالم كله، وسيظل يعانى منها فى المستقبل القريب و البعيد ، وتكشف ظاهرة البطالة عن حقيقة فى غاية الأهمية ألا وهى أن عرض العمالة أكبر كثيراً من الطلب عليها فى جميع إقتصادات العالم ، حتى بات توازن سوق العمالة مجرد حالة نظرية جداّ لا وجود لها إلا فى كتب الإقتصاد , ويرجع الفائض الكبير فى عرض العمالة فى سوق العمل إلى التقدم التكنولوجى الكبير والإعتماد المتزايد على الآلات والحاسبات الآلية بدلاً من البشر، وإلى عدم قدرة المناهج التعليمية المختلفة على تأهيل خريج مؤهل لسوق العمل ذات الإيقاع السريع فى التقدم والتطور.
وفى إطار فلسفة تحديد الأجور، ظهر مفهوم ربط الأجر بالإنتاج ، وأثبت عدم جدواه لإعتماده على الكم فقط دون الكيف ، ثم ظهر مفهوم آخر وهو ربط الأجر بالإنتاجية ، وهو مفهوم أكثر تطوراً فى تحديد قيمة الأجر، ولكنه غير مطبق إلا فى الوحدات الإقتصادية المتطورة إدارياً و تنظيمياّ و التى يمكنها قياس إنتاجية العامل بأسلوب كمى و موضوعى مباشر.
أما فى مصر، فإن تحديد الأجور يعتبر بمثابة لوغاريتم كبير لا يستند لأى منطق سواء كان إقتصادى أو إجتماعى ، فالأجور فى القطاع الحكومى يحكمها قانون ولكنها تختلف من قطاع حكومى لآخر، فنجد الجهات الحكومية المدرة للدخل يحصل الموظف فيها على دخل مرتفع نسبياّ كالضرائب والجمارك.
أما الجهات الحكومية غير المدرة للدخل فيحصل فيها الموظف على دخل متدنى جداً كوزارة الصحة والشئون الإجتماعية على سبيل المثال لا الحصر، ولا يختلف الوضع كثيراً فى الشركات المملوكة للدولة كشركات البترول والبنوك التى تمنح مرتبات مرتفعة مقارنة بشركات الغزل والنسيج والمطاحن التى تمنح مرتبات منخفضة، وذلك على سبيل المثال لا الحصر أيضاّ.
وداخل كل قطاع حكومى أو تابع للدولة ، ظهرت فئة المستشارين وهم الموظفين المحظوظين الذين يغرفون من المال العام بدون حساب ولا منطق ، وحتى الآن لم يستطع أحد إيقاف هذا الغرف المكثف من المال العام تحت مسمى الأجور و المرتبات برغم صدور قرار بالحد الأقصى للأجور فى القطاع الحكومى، و لكن سرعان ما قضى ببطلانه قانونأ ليعود الوضع كما كان عليه !!
أما فى القطاع الخاص ، فالأمر مختلف ، فهناك أصحاب أعمال لهم رؤية سليمة فى تحديد الأجور فيمنحوا عمالهم أجوراً كافية ، ولكن هذه الفئة قلة والغالبية العظمى تمنح أجوراً عادية وتشغل العامل ساعات أطول ، فلا قانون ولا نقابة ولا يحزنون!! حيث يوقع العامل أو الموظف على إستقالته وعلى إستمارة 6 تأمينات عند تسلمه العمل فى بعض وحدات القطاع الخاص ليستطيع صاحب العمل التخلص منه رسمياً وبالقانون فى أى وقت!!.
وبالنظر إلى مفردات المرتب فى مصر نجدها غريبة ومعقدة و لا تستند إلى أى منطق إقتصادى ، فنجدها تضم المرتب الأساسى، و المرتب التأمينى، و العلاوات الإجتماعية و المرتب الأساسى خالى من العلاوات الإجتماعية وغلاء معيشة و حوافز إنتاج و وحوافز عادية و وغلاء معيشة و وبدل وجبة ، و بدل طبيعة عمل وبدل إنتقال وما إلى ذلك من مسميات مختلفة تحت بند الأجور المتغيرة يتوه المرء عند محاولة تحليلها، وفى الواقع فإن مسميات هذه البنود تندرج تحت بند واحد هو بدل ما الموظف يشحت ويتسول لعدم كفاية الأجر من الأساس و ترقيعه بزيادات قليلة تحت مسميات مختلفة !!
و بعيدًا عن القيم الدينية والأخلاقية، لا يخفى على أحد أن تفشى الرشاوى فى القطاع الحكومى يفسر إقتصاديًا وإجتماعيًا بتدنى الأجور فيه منذ زمن طويل ، حتى أصبحت هذه الرشاوى بمثابة حق مكتسب للمرتشى وجزء لا يتجزأ من كل من مفردات مرتبه و مفردات الحياة اليومية فى مصر.
وأخيراً ، فإن أى إصلاح إقتصادى وإجتماعى يجب أن يتضمن إصلاح الأجور والمرتبات وإخضاعها لمنطق إقتصادى وإجتماعى موضوعى , هذا إذا أردنا إصلاحًا حقيقيًا.
حكمة مازحة
لماذا لا تصلح الدولة المرتبات؟؟
لأنها لا تريد التدخل فى الأرزاق!!
CNA- مقال بقلم،، أحمد الألفى، كاتب ومدير سابق بأحد البنوك، له العديد من المؤلفات الاقتصادية