أحمد الألفى يكتب : الموازنة (الموازية) والصناديق الخاصة

elalfy-300x200
أحمد الألفى

فى أعقاب ثورة  25 يناير كثر الحديث عن الصناديق  الخاصة ، أو بالأحرى عن الأموال التى تديرها هذه  الصناديق – خارج  نطاق  الموازنة العامة  للدولة –  وبعيداً عن قبضة أجهزتها  الرقابية ، مما يجعلها بمثابة أبواب خلفية فسيحة ومقننة للفساد المالى و الادارى، وقد تعالت الأصوات الوطنية منادية بضرورة  سرعة ضمها الى الموازنة العامة للدولة لتسد جانبا كبيرا من عجز الموازنة المزمن و المتزايد ، والذى بات  يشكل عبئا كبيرا على الاقتصاد القومى  ينذر بتفجر الدين العام الداخلى الذى يكاد يلتهم الناتج القومى الأجمالى برمته.

وتاريخيا نشأت فكرة الصناديق الخاصة فى أعقاب نكسة 1967 كمحاولة من الحكومة لتخفيف العبء على الموازنة العامة كنتيجة لعدم القدرة على سد بعض الاحتياجات التمويلية فى الموازنة العامة للدولة للانفاق على بعض الخدمات العامة ،حيث صدر القانون رقم (38) لعام 1967 الذى أقر إنشاء صناديق خاصة للنظافة فى المحليات يتم تمويله من خلال فرض رسوم نظافة محلية على المواطنين، لكن النشأة الرسمية والفعلية لـلصناديق الخاصة بدأت فى عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات الذى أصدر القانون رقم (53) لسنة 1973 بشأن الموازنة العامة للدولة.

فقد سمح هذا القانون بإنشاء صناديق خاصة و وحدات ذات طابع خاص، حيث أجاز بموجب قرار من رئيس الجمهورية إنشاء صناديق تخصص لها موارد معينة لاستخدامات محددة ،ويعد للصندوق موازنة خاصة خارج الموازنة العامة للدولة وتتبع الجهات الإدارية التى يتبعها كالجهاز الإداري للدولة، الإدارة المحلية ، الهيئات العامة الخدمية والاقتصادية، وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة.

وفى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك تشعبت تلك الصناديق وانتشرت فى كل الوزارات والمحافظات والشركات القابضة و التابعة، وصدرت سلسلة من القوانين تعطى  للعديد من الجهات الحق فى إنشاء صناديق خاصة،  منها على سبيل المثال لا الحصر قانون التعليم رقم (139) لسنة 1981، وقانون الجامعات رقم (49) لسنة 1992.

ونظرًا لأن الصناديق الخاصة تعد بمثابة أوعية موازية  للموازنة  العامة فى الوزارات والهيئات العامة، وتنشأ بموجب قرارات جمهورية، لتستقبل حصيلة الخدمات والدمغات والغرامات وغير ذلك من الموارد لتحسين الخدمات التى تقدمها الهيئات العامة، فهذه الحصيلة لا تدخل  لخزينة الدولة و لا علاقة للموازنة العامة بها، وبالتالى لا يناقشها مجلس النواب و لا تخضع لرقابته ، ومعظمها لا يخضع لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات، ولاسيما الصناديق الخاصة التابعة للجهات السيادية  وشبه السيادية، ويترتب على ذلك أن الصناديق الخاصة لا تخضع لأحكام قانون الموازنة العامة للدولة ، ومن ثم لا تخضع  لأى صورة من صور الرقابة البرلمانية التى تخضع لها الموازنة العامة للدولة .

ويتعارض وجود هذه الصناديق الخاصة مع الأسس والمبادئ المستقرة و المتعارف عليها فى علم المالية العامة ، والتى تقضى بأن الأصل أن تتضمن الموازنة العامة للدولة جميع الايرادات و المصروفات، أى كافة التدفقات المالية الداخلة ( الايرادات) و الخارجة ( المصروفات)  اعمالاّ لمبدأ عمومية وشمول الموازنة العامة، وتعنى عمومية الإيرادات والمصروفات للموازنة العامة للدولة عدم جواز تخصيص ايراد معين للانفاق على مصروف معين  داخل أو خارج الموازنة العامة.

حيث تنص المادة رقم (3) من قانون الموازنة العامة للدولة رقم (53) لسنة 1973 على أن الموازنة العامة للدولة تشمل جميع الاستخدامات والموارد  لجميع أوجه أنشطة الدولة التى يقوم بها كل من الجهاز الإدارى و وحدات الحكم المحلى والهيئات العامة وصناديق التمويل.

كما  يتعارض وجود هذه الصناديق الخاصة  أيضاّ مع  معايير الشفافية  الدولية  الموضوعة من قبل صندوق النقد الدولى والتى تسمح بالإنفاق خارج الموازنة العامة فى حدود نسبة  لا تجاوز 2% من حجم الإنفاق العام، بينما الإيرادات السنوية للصناديق الخاصة تقدر بمليارات الجنيهات، و بكل تأكيد تجاوز حاجز ال 2% المحدد عالمياّ  كسقف للانفاق خارج الموازنة العامة للدولة .

وتتراكم أرصدة الصناديق الخاصة بشكل كبير و سريع  جداّ لدرجة أن رئيس احدى الجامعات الحكومية الكبرى يتباهى  بأن أرصدة الجامعة فى البنوك قد قاربت من المليار جنية مصرى و مثلها بالعملات الاجنبية ( بالمعادل بالجنيه المصرى).

ولاشك أن هذه الأرصدة التى يتباهى بها رئيس الجامعة ، تمثل حصيلة  رسوم قام بجبايتها من الطلبة و لم ينفقها فى الأغراض المخصصة لها لتتراكم فى البنوك ليتباهى بها فى وسائل الاعلام ، و لم يحاسبه أحد على عدم انفاقها فى تحسين مستوى العملية التعليمية المتدنى فى جامعته العريقة!!

ومنذ صدور القانون رقم (38) لعام 1967  و القانون رقم (53) لسنة 1973 بشأن الموازنة العامة للدولة والسماح بإنشاء صناديق  خاصة للنظافة فى المحليات يتم تمويله من خلال فرض رسوم نظافة محلية على المواطنين، تتراكم و تتفاقم قضية نظافة المدن المصرية برغم وجود مصدر دائم ومتجدد للانفاق على النظافة – خارج الموازنة العامة – الأمر الذى لا يدع مجالا للشك على عدم جدوى وجود هذه الصناديق الخاصة فى المحليات التى نعلم جميعًا مدى غرقها فى الفساد حتى باتت بمثابة أكاديمية لاتقان فنون و علوم و أساليب الفساد المنظم و غير المنظم.!

وثمة تضارب كبير فى تحديد عدد الصناديق  الخاصة وفى قيمة إيرادات هذه الصناديق، ولكن هناك تصريحات تؤكد أن عدد الصناديق الخاصة القائمة حاليا تقدر بنحو 6625 صندوقا، منهم 33% لجهات حكومية وسيادية، 13% قطاع أعمال وقطاع عام، 42% نقابات، 12% بنوك، مؤسسات صحفية، قطاع خاص، وإجمالى الأموال فى هذه الصناديق بلغ 43 مليار جنيه، وبلغ إجمالى الاشتراكات فى 2014 نحو 5.2 مليار جنيه بنسبة نمو 5.3%.

وهناك احصائيات أخرى تؤكد أن الجهاز المركزى للمحاسبات عرض بيانًا أكد فيه أن إيرادات الصناديق الخاصة بلغت فى عام واحد نحو 21 مليار جنيه، وتجاوزت مصروفاتها نحو 15 مليار جنيه، وبلغت فوائضها نحو 12 مليار جنيه، وأن أرصدة الصناديق فى الحساب الموحد بالبنك المركزى بلغت 12 مليار جنيه  وبالبنوك التجارية 270 مليون جنيه،وحدد قيمة المخالفات المالية لهذه الحسابات الخاصة لهذا العام بنحو 9 مليارات جنيه بنسبة 43% من جملة الإيرادات.

ولكن لا يوجد احصاء دقيق ينتج رقم محدد وموثوق فيه لقيمة إيرادات الصناديق أو عددها، فالبعض يؤكد أن عددها يصل الى 10 الاف صندوق وايراداتها مئات الملايين، وذلك يدل على عدم وجود بيانات دقيقة او حصر شامل وهى ثغرة أساسية تحول دون المراقبة والمتابعة مما يؤثر على آليات الصرف، التى يجب أن توجه لتحقيق الهدف من انشاء الصناديق ألا و هو تحسين الخدمات العامة ، و تتنوع أرصدة الصناديق الخاصة وحساباتها ما بين الجنية المصرى و الدولار الامريكى ،حيث توجد صناديق خاصة بالعملة الاجنبية و تودع أرصدتها بالبنوك المصرية العامة و الخاصة.

و فى اطار الضغوط المجتمعية الساعية لضم الصناديق الخاصة للموازنة العامة للدولة ، تم تقديم اقتراح  لمجلس النواب، بمشروع قانون لتعديل القانون رقم 53 لسنة 1973 بشأن الموازنة العامة للدولة  و يطالب بإلغاء الصناديق الخاصة وتوجيه كل أرصدتها إلى خزانة الدولة، لتدرج ضمن الموازنة العامة،مع إحالة جميع التزامات الصناديق والتعاقدات التى تكون طرفًا فيها إلى وزارة المالية، ما عدا المستثنى منها وتشكيل لجنة عليا لحصر الصناديق الخاصة وحساباتها، وتحديد سبل صرفها طوال الفترات التى كان يتم تحصيل تلك المبالغ بها.

وبرغم تبعية الصناديق الخاصة للدولة، إلا أنها تحصل فقط على نسبة 10% من إجمالى ايراداتها ، و قد تم رفع  هذه النسبة من 10% إلى 15% هذا العام بغرض زيادة إيرادات الدولة، وسيتم تحديد النسبة سنويا وفقا لرؤية الدولة، والحصيلة المتوقعة من ضم 15% من إيرادات الصناديق الخاصة إلى الموازنة تقدر بما يتراوح بين 2 و2.5 مليار جنيه، وهناك صناديق تم إعفاؤها من تحويل هذه النسبة إلى الدولة مثل الصناديق  الخاصة بالجامعات.

وبرغم الضغوط المجتمعية الرامية الى ضم الصناديق الخاصة الى الموازنة العامة للدولة، إلا أن بعض رجال الاقتصاد لهم رأى مغاير ، حيث يرى البعض الابقاء على الصناديق الخاصة خارج الموازنة العامة للدولة لتقوم بدورها فى تحسين الخدمات العامة نظرًا للدور الاجتماعى  الذى تؤديه بعض الصناديق  مثل  صناديق تحسين الخدمة الصحية  للمستشفيات العامة، لأن  هذه الصناديق تتلقى تبرعات من المواطنين.

كما أن بعض الصناديق  الخاصة يحصل على تمويل من خلال اتفاقيات ومنح دولية لها موازنات أقرتها الجهات المانحة، لذا يجب الابقاء عليها ككيانات مستقلة لتستمر فى أداء دورها باستقلالية،ويستند هذا الاتجاه المؤيد للابقاء على الصناديق الخاصة الى حكم  للقضاء الإدارى، حيث  قضت الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري، بمجلس الدولة ، بعدم قبول الدعوى المطالبة بضم ملكية الصناديق الخاصة وإيراداتها للموازنة العامة.

أما الاتجاه المؤيد لضم الصناديق الخاصة الى الموازنة العامة للدولة ، يرى أن الدولة تعانى من عدم وجود موارد مالية لحل مشاكلها الاقتصادية، فى الوقت الذى يوجد بتلك الصناديق مبالغ كبيرة ، كما ان الصناديق  الخاصة ابتعدت فى الواقع الفعلى عن الأهداف التى أنشئت من أجلها ، لذلك فالأولى تعظيم استفادة الموازنة العامة للدولة من المبالغ والأرصدة المالية الموجودة فى الصناديق الخاصة وتوحيد أوجه الإنفاق بما يسهم فى إحكام عملية الرقابة عليها.

وبعيدًا عن كل من الاتجاه المؤيد و المعارض لضم الصناديق الخاصة الى الموازنة العامة للدولة ، فأموال هذه الصناديق تأتى من حصيلة رسوم تفرض  جبراّ على المواطنين تحت مسميات مختلفة كطابع شرطة و طابع مهن تعليمية  و أتعاب محاماه  و رسوم نظافة .. و ما الى ذلك من مسميات، و هذه الرسوم تعتبر بمثابة ضرائب مستترة تقوم هذه الصناديق الخاصة بجبايتها من المواطنين و تثقل كاهلهم.

وتختلف الضرائب عن الرسوم اختلافاّ كبيراّ و جوهرياّ ، فى أن الضرائب تفرض على أوعية أرباح أو دخول ، فى حين أن الرسوم تفرض أساسًا بغرض تنظيم  تقديم و أداء الخدمات العامة ، و ليست ثمنًا مباشراّ لهذه الخدمات العامة ، لذلك فان الصناديق الخاصة تضرب بقواعد علم المالية العامة عرض الحائط و تخلط خلطاّ فاحشاّ بين الضرائب و الرسوم ، فهى ضرائب بلا وعاء ضريبى ، و رسوم بلا خدمات ، لأن مستوى  الخدمات العامة فى تردى مستمر، ومن سئ الى أسوأ منذ نشأة هذه الصناديق الخاصة فى عام 1973و حتى الاّن .

وأخيرًا، لا  يخفى على أحد أن  الجانب الأكبر من حصيلتها ينفق على المكافآت والبدلات و الحوافز و الرحلات  للسادة القائمين عليها بعيداّ عن عيون الرقابة ، لأنها صناديق لا  يراقبها الا الله ؟؟  فقد اّن الأوان  إذا  لم تضم الى الموازنة العامة ، فأضعف الايمان أن يطولها مقص الرقيب المالى و الادارى.

CNA– مقال بقلم ،، أحمد الألفى ، الخبير المصرفى والمدير بأحد البنوك

موضوعات ذات صلة
أخبار كاش