مقال| التكاليف الإجتماعية لأمراض الاقتصاد
يعتبر كلًا من التضخم و البطالة من أشد أمراض و أورام الإقتصاد الحديث والمعاصر، حيث يؤدى معدل التضخم المرتفع و المزمن فى الإقتصاد إلى إعادة توزيع الثروة و الدخل لصالح الأغنياء و أصحاب الدخول المتغيرة وإلى تآكل الدخول الحقيقية لأصحاب الدخول الثابتة و المعاشات، وبمرور الوقت يقعون تحت خط الفقر الذى بات متسعا للجميع.
كما يعنى معدل البطالة عدم وجود دخول للعاطلين للإنفاق على المتطلبات المعيشية ، والأخطر من هذا التداعيات النفسية التى تحيط بنفسية العاطلين عن العمل ، ومن أبرز هذه التداعيات الإحساس بعدم القيمة فى الحياة ، فضلاً عن مرارة الإحساس بالدونية و بالتهميش الإقتصادى والإجتماعى.
وهكذا فكل من دائى التضخم و البطالة يؤديان إلى نتيجة واحدة هى الفقر والظلم الإقتصادى والإجتماعى ، وللهروب السلبي من دائرتى التضخم و البطالة ، فإن الطريق يكون ممهداً للدخول فى عالم الجريمة و الإدمان ثم الإنتحار السلبى و أخيراً الإنتحار الإيجابى.
فالعلاقة بين معدلات البطالة و معدلات الجريمة علاقة طردية ومؤكدة فى معظم المجتمعات ، فكلما زادت معدلات البطالة إرتفعت معدلات الجرائم الجنائية ، وكلما زادت معدلات التضخم إرتفعت معدلات الجريمة أيضاّ ، حيث تزداد الجرائم المالية كالرشوة والإختلاس والتربح من الوظيفة كلما إرتفعت معدلات التضخم.
ولكن هذه العلاقات الطردية والمؤكدة بين معدلات التضخم والبطالة وبين معدلات الجريمة ليست مطلقة ولا تؤخد على علاتها ، حيث يحد من إعمال وتفعيل هذه العلاقة الوزاع الدينى و الإطار الأخلاقى للمجتمع ككل وللفرد أيضاً، فإنهيار القيم الدينية والأخلاقية يؤدى إلى فاعلية وإعمال هذه العلاقة ، والتمسك بالقيم الدينية والأخلاقية يؤدى إلى كبح جماح هذه العلاقة وتحجيمها إلى حد كبير.
وقد تشتبك هذه العلاقة مع القيم الدينية منتجة ما هو أخطر من كل من الجرائم الجنائية و المالية كالتطرف و كراهية و تكفير المجتمع و العنصرية، و يفسر هذا الإشتباك إنضمام بعض الشباب من المجتمعات الغربية والعربية الغنية إلى التنظيمات الإرهابية ، أو على الأقل إبداء الإعجاب الإيجابى أو الإنبهار بها .
وثمة علاقة أخرى طردية ومؤكدة بين كل من معدل الجريمة ومعدل البطالة والتضخم ، حيث ترتفع معدلات الإصابة بالأمراض النفسية كلما إرتفع معدل البطالة والتضخم ، ويؤدى إرتفاع معدل الإصابة بالأمراض النفسية بسبب أمراض الإقتصاد من بطالة وتضخم إلى زيادة معدل جرائم الإنتحار الإيجابى ، بإعتبار الإنتحار جريمة فى حق النفس ، وتتعدد الأمراض النفسية وأشهرها الإكتئاب وعدم الرغبة فى الحياة والإحساس المرير بوطأتها على نفسية وكرامة المنتحر أو المقدم على الإنتحار.
وتشير الأرقام المنشورة إلى زيادة حالات الإنتحار أو الإقدام على الإنتحار خلال السنوات القليلة الماضية ، ومعظم هذه الحالات لأشخاص فى سن العمل والشباب والإنتاج ، هذا عن الإنتحار الإيجابى ، أما عن الإنتحار السلبى و يعنى اللجوء إلى عالم الإدمان والمخدرات و الترامادول للهروب من الواقع الأليم و التحليق فوق السحاب ، لكنه سحاب تحت سراديب الأرض وليس فى السماء بطبيعة الحال.
كما تلقى أمراض الإقتصاد بظلالها أيضاّ على العلاقات الإجتماعية ، حيث ترتفع معدلات الطلاق كنتيجة مباشرة لإرتفاع معدلات التضخم و البطالة بسبب عدم القدرة على تلبية متطلبات الأسر المعيشية ، و يترتب على إرتفاع معدلات الطلاق والإنفصال تفشى التفكك الأسرى بما له من اّثار مدمرة على الأطفال المعالين بسبب تفتيت اللبنة الأولى فى المجتمع ، ألا وهى الأسرة .
ومن عالم الإدمان والمخدرات يترنح بعض الشباب العاطل إلى عوالم مهلكة أخرى أهمها عالم الجريمة الإلكترونية كجرائم السرقة عبر الإنترنت و الإبتزاز و القرصنة الإلكترونية ، وما إلى ذلك من جرائم إلكترونية ، ربما يقدم على إرتكابها هؤلاء الشباب المتعلم إلكترونياً بدافع الإحساس بالقدرة على عمل شئ إيجابى لإثبات الذات حتى لو كان متعارضاً مع القانون!!.
وثمة عالم آخر يلجأ إليه بعض الشباب العاطل ألا و هو عالم الهوس الدينى و التطرف و أحياناّ الإلحاد الذى بدأ يعلن عن نفسه بجرأة غير مسبوقة فى بلاد الشرق مهد الأديان السماوية ، حيث يجد البعض فى هذا العالم لغة إنتقامية من العالم الحقيقى الذى يقوم على الظلم وعدم المساواة ، وأخيراً تسقط بعض الفتيات الشابات فى عالم الدعارة الإلكترونية عبر الإنترنت وسرعان ما تتحول من الدعارة الإفتراضية إلى الدعارة الفعلية.
و”أس” الفساد هو الفراغ الذى يعانى منه الشباب العاطل ، فلابد من إيجاد آليات جادة لإستغلال طاقات هذا الشباب المتعلم والحالم أيضاً بدلاً من تركهم للسقوط فى هذه العوالم المهلكة ، فهذا الشباب لا يريد صدقات و لا إعانات و لا إعانة بطالة ، يريد فقط أن يكون له دوره الطبيعى الحقيقى و الحقوقى فى الحياة ، وأعتقد أن تلك مسئولية الدولة و المجتمع معاّ، فقد يكون هذا الشاب إبنك أو حفيدك.
فتحرك أيها المسئول و إفعل شيئاً مفيداً بدلاّ من الكلام عن قوة الإقتصاد فى عام 2030 بعد الميلاد !! و ليعلم متخذ القرار أن الإقتصاد ليس أرقاماّ مجردة و لا مؤشرات رقمية فحسب ، بل هو علم إجتماعى فى المقام الأول ، فهو ملكة العلوم الإجتماعية بحسب تعريفه الكلاسيكى .
حكمة مازحة
هل من مناعة ضد أمراض الإقتصاد؟؟
نعم بأمصال التوزيع العادل للدخل !!
CNA– مقال بقلم،، أحمد الألفى، كاتب اقتصادى ومدير سابق بأحد البنوك