مقال .. أساسيات لدفع الاستقرار للاقتصاد الكلى بمصر
في خضم الاضطرابات التي تشهدها الأسواق المالية في الوقت الراهن، يساور الحكومات بالدول النامية،و التي غالباً ما تكون عرضه لصدمات خارجية تتجاوز نطاق تحكمها، شعورُ بالقلق إزاء المخاطر المحتملة على استقرار اقتصاداتها الكلية.
ورغم إبداء الكثير من البلدان النامية تحسّناً في درجة مرونتها وتأقلمها مع الاختلالات التي تشهدها الأسواق المالية في البلدان الغنية، فإن استمرار الاضطرابات ـ مقترناً بآثارها المثبطة على النمو العالمي ـ تشكل مخاطر كبيرة على اقتصادات البلدان النامية.
واستطاع عدد كبير من البلدان تكوين احتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي لحماية أنفسها من تقلبات أسعار الفائدة وأسعار الصرف، ناهيك عن الاضطرابات في التمويل القصير الأجل، لكن الاحتياطيات ليست سوى حلٍ مؤقتٍ.
وبحسب أحد التقارير لباحثي البنك الدولي، فإن أفضل سبيل للمضي قدماً بالنسبة للبلدان النامية هو إعداد إستراتيجيات شاملة للتصدي لتقلبات الاقتصاد الكلي على عدة جبهات، منها عن طريق تحسين قدرتها على امتصاص الصدمات الخارجية.
ومن ثم فإن الوضع الراهن يقتضي إتخاذ التدابير الضرورية نظراً لأن تقلبات أوضاع الاقتصاد الكلي تشكل أحد الشواغل الرئيسية المتعلقة بعملية التنمية، كما أنه ينطوي على تكاليف أعلى بكثير بالنسبة لمستوى رفاهية البلدان الفقيرة عنه بالنسبة للبلدان الغنية”.
وبالنظر إلى أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، فإن نسبة الخسائر المباشرة في مستوى الرفاهية نتيجة للانحراف عن مسار مستقر للاستهلاك تبلغ نحو 10% من الاستهلاك السنوي في بعض البلدان مقارنة بأقل من 1% في البلدان الصناعية.
إن من شأن تقلبات الاقتصاد الكلي أن تؤدي إلى تقليص مستوى النمو في الناتج الاقتصادي، كما تؤثر على مستوى الاستهلاك في المستقبل ويظهر هذا التأثير بوضوح في البلدان الفقيرة التي تعاني من ضعف أطرها المالية والمؤسسية، والتي لا تستطيع تكييف سياسات ماليتها العامة لمواجهة هذا الوضع.
أيهما جاء أولاً .. إن تقلبات الاقتصاد الكلي ترتبط بشكل واضح بانعدام التنمية ،فهي لا تؤثر بشكل كبير فقط على مستوى الرفاهية في البلدان النامية، بل إنها تحدث بشكل أكثر تواتراً في البلدان النامية عنه في البلدان الغنية.
علاوة على ذلك، لا تقتصر تقلبات الأسواق على البلدان الصغيرة الحجم مثل الجمهورية الدومينيكية أو توغو، بل إنها تشمل أيضاً بلداناً كبيرة الحجم كالصين وإندونيسيا. ومن الملاحظ أن الكثير من الاقتصادات التي تعاني حالة من التقلب وعدم الاستقرار، مثل إكوادور ونيجيريا، هي بلدان مصدرة للسلع الأولية بالدرجة الأولى، ولكنها تشمل أيضاً بلداناً أخرى مثل بيرو ممن تشهد اقتصاداتها تحولاً سريعاً نحو التصنيع.
وبحسب خبراء فى البنك الدولى فإن ارتفاع درجة تقلب الاقتصاد الكلي في بلدان العالم النامية ينبع من ثلاثة مصادر هي:
- كِبر حَجم الصدمات الخارجية، كتلك الناجمة عن الأسواق المالية وأسواق السلع.
- ازدياد درجة تواتر الصدمات المحلية، بما في ذلك وقوع أخطاء في السياسات الداخلية.
- ضعف “آليات امتصاص الصدمات” للتخفيف من حدة الآثار الناجمة عن الاضطرابات.
ومن ثم فنحن من هذه البلاد النامية اقترح إستراتيجية من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي لدينا، حيث أن التكيّف مع مصادر التقلب في الاقتصاد الكلي الحالية يقتضي اعتماد إستراتيجية ذات ثلاثة أبعاد لتحسين الاستقرار الاقتصادي في بلادنا : –
1- ترتيب الأوضاع والشئون الداخلية
يبدو أن من شأن عدم استقرار عملية التنمية، عند اقترانه بوقوع أخطاء في السياسات الداخلية، يؤدي إلى وقوع صدمات داخلية أكثر تواتراً وفي حقيقة الأمر، فإن عدم انتظام السياسات المالية العامة للحكومات المتتابعة ادي في الغالب إلى عدم استقرار الاقتصاد الكلي. حيث تتسبب في ازدياد تقلب الاقتصاد الكلي عن طريق اعتماد سياسة نقدية تضخمية.
كما أن النزاعات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي وسوء الإدارة الاقتصادية شكلت اهم الاسباب لتقلبات متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي ،اما الصدمات الخارجية ـ كتلك المرتبطة بالمعونة الأجنبية والتجارة أو حتى الظروف المناخية ـ لا تسهم سوى بجزء صغير، إلا أنها مازالت تشكل أحد الأسباب الرئيسية في تقلبات الاقتصاد الكلي وعدم استقراره.
ومن الضروري أن تكون السياسات العامة جيدة التصميم بحيث تتحكم في مستوى إنفاق المالية العامة ودرجة تقلبها، حتى يمكن الحفاظ على استقرار السياسات النقدية والمالية، وتلافي ارتفاع الأسعار، كما في حالة أسعار الصرف المزدوجة.
2- بناء القدرة على التكيف من خلال القوانين والمرونة
يتيح ضعف “آليات امتصاص الصدمات” في مصر الفرصة للتقلبات الخارجية لزيادة حدة تقلب الاقتصاد الكلي وعدم استقراره، إذ اننا لا تملك في أحوال كثيرة آحتي الاليات التقليدية لامتصاص الصدمات، كسياسات تثبيت أوضاع الاقتصاد الكلي والأسواق المالية المتنوعة النشاط .
حيث أن السياسة المالية العامة لدينا مسايرة للاتجاهات الدورية حيث تشهد توسعاً في فترات الازدهار وانكماشاً في فترات الركود. ولكن، حتى يمكن امتصاص الصدمات الخارجية ، ينبغي أن تكون السياسة المالية العامة مضادة بدرجة أكبر للاتجاهات الدورية .
ويعتمد ذلك على مدى قدرة الحكومة على تقليص مديونيتها العامة إلى مستويات مقبولة، وزيادة معدلات الادخار في أوقات اليسر، والإنفاق على نحو يتسم بالمسؤولية وهذا عكس مايحدث عندنا للاسف فعندما تواجه الشركات صعوبات في إعادة تخصيص مواردها، وبخاصة بسبب القيود المتعلقة بالقوانين والعمالة وايضا والاهم الأسواق المالية التي اصبحت أكثر عرّضة للصدمات الاقتصادية وبعنف .
ومن الضروري أن تكون الشركات قادرة على التكيّف مع الصدمات عن طريق إعادة توزيع مواردها على المرافق والمناطق والقطاعات التابعة لها. وبينما تتيح المنافسة والتجارة الآليات الأساسية لتحقيق ذلك، يمكن للحكومة المساعدة عن طريق تقليص الأعباء التي تنشأ بسبب اللوائح والقوانين المتلاحقة والتنظيمية.
كما يمكن للأسواق المالية أن تعمل على تنويع أنشطتها بعيداً عن المخاطر التي تشكلها الصدمات الخارجية ولكنها للاسف عندنا تفتقد العمق والشفافية .
3- إعداد العدة لمواجهة الأوضاع المضطربة والعاصفة
يمكن أن تنبع الصدمات الخارجية الأكبر حجماً التي تتعرض لها مصر من الأسواق المالية (مثلاً حدوث توقف مفاجئ في التدفقات الرأسمالية الوافدة – خروج رؤوس اموال عربية واجنبية ).
وفي العادة، توجد ثلاثة خيارات أمام الحكومة هي ـ الحماية الذاتية، والتأمين الذاتي، والتحوط والتأمين بشكل تامٍ.
ويمكن أن تؤدي الحماية الذاتية (مثلاً خفض مستوى الانفتاح التجاري ووقف الاستيراد وتشديد الرقابة على الأسواق المالية من تلاعبات الاربتراج ) إلى الحد من إمكانية التعرض للمخاطر الخارجية، إلا أنها تعيق المكاسب الناشئة عن الاندماج في الأسواق العالمية، وتزيد من احتمال التشوهات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى وقوع صدمات داخلية اخري كبيرة.
وقد تكون هناك سياسات داخلية أخرى أكثر ملاءمة للحد من إمكانية التعرض للصدمات الخارجية. وليس امامنا الا مرونة سوق العمل الذي يمكن أن تقلص الخسائر في الناتج الكلي الناجمة عن صدمات معدلات التبادل والميزان التجاري.
ويشمل التأمين الذاتي الاحتفاظ بالموارد اللازمة مع مرور الوقت ، مثل تكوين احتياطيات أجنبية في أوقات الرخاء أو النمو القوي وليس عن طريق القروض المتلاحقة والمبالغ فيها . وبالرغم من إن نسبة الاحتياطيات الأجنبية إلى الواردات قد ازدادت أكثر من الضعف في الاقتصادات الناشئة الاخري على مدى 15 عاماً الماضية .
إلا أن الاحتفاظ بالسيولة عندنا والذي يعني أيضاً التضحية بفرص استثمارية سريعة يبدو أقل كفاءة كثيرا لدينا عند مقارنته بالتدابير التحوطية التي يمكن تطبيقها عن طريق تطوير أدوات مالية لمواجهة حالات الطوارئ .
ويشير التحوط والتأمين التامان إلى تحويل الموارد عن طريق توفير خطوط الائتمان الطارئ أو تداول عقود الخيارات السلعية. ولا تتوافر خيارات التحوط المتطوّرة الي الان عندنا ، إلا أن الأسواق المالية الغير مستغلة تماما هي فقط التي تتيح بعض فرص التحوط المُحبذة عن التأمين الذاتي فيجب علينا استغلالها .
ومن اهم الإستراتيجيات المثلى للتأهب لمواجهة الأوضاع المضطربة والعاصفة تكمن في تفضيل خيارات أدوات التحوط والتأمين واستغلال سوق المال.
مقال بقلم د. هدي المنشاوي ،رئيس جمعية التنمية والاستثمار بأسواق المال ( المقال جزء من بحث للكاتبة لدى البنك الدولى)