مقال .. خبايا وتفاصيل حرب العملات العالمية
حرب العملات العالمية التى تدور رحاها على المسرح الاقتصادى العالمى بين القوى الاقتصادية الكبرى ليست و ليدة اليوم , بل ترجع الى عدة عقود سابقة فى عقد السبعينيات من القرن العشرين و تحديدا فى أعقاب حرب اكتوبر 1973 التى تولد عنها فوائض مالية ضخمة من الدولار الامريكى نتيجة ارتفاع أسعار البترول .
و أطلق على هذه الفوائض المالية البترودولار petrodollars و التى سمحت باحداث نمو كبير جدا فى حركة التجارة الدولية مع تزايد اليات تحرير التجارة الدولية على النطاق الدولى , ومن ثم بدأ الصراع يحتدم بين القوى الاقتصادية الكبرى وهى الولايات المتحدة و اليابان و الصين و أوربا لالتهام أكبر حصة من كعكة التجارة الدولية.
ولقد أطلقت الولايات المتحدة الشرارة الأولى لحرب العملات ـــ حينذاك ـــ بتبنى سياسة نقدية تهدف إلى خفض سعر الدولار، و ذلك بشراء العملات الأجنبية الرئيسية القابلة للتحويل مقابل الدولار لرفع أسعار صرفها فى الأسواق لتكون أغلى نسبيا من الدولار، حيث أشترت المارك الألماني في عام 1985 و الين اليابانى في عام 1998 بغرض خلق طلب مفتعل و مصطنع عليها و ذلك لتجعل صادرات كل من المانيا و اليابان أغلى نسبيا من الصادرات الامريكية اعتمادا على سعر الصرف لتزيد الصادرات الامريكية و تقل الصادرات اليابانية و الالمانية.
و يترتب على ذلك أن حرب العملات العالمية لا تعدو أن تكون أداه لحرب اقتصادية و تجارية غير شريفة تستخدم فيها أسعار صرف عملات الدول الكبرى المتصارعة على كعكة التجارة الدولية للحصول على أكبر حصة ممكنة منها على حساب حصص الدول الكبرى الاخرى المتصارعة , و ذلك فى اطار السياسات النقدية التى تتبناها البنوك المركزية لهذه الدول , بل و قد تتجاوز أدوات حرب العملات العالمية أطر السياسات النقدية للدول المتصارعة و ذلك بشن حملات للمضاربة على أسعار عملات الدول المنافسة فى أسواق الفوريكس FOREX لتأخذ أسعارها فى الارتفاع لتخسر بذلك بعضا من صادراتها.
وتقوم حرب العملات العالمية على أساس تبنى سياسة لتخفيض القيمة الخارجية للعملة فتكون صادرات الدولة التى خفضت القيمة الخارجية لعملتها ( أى سعر صرفها أمام العملات الاخرى ) أرخص نسبيا فى الاسواق العالمية من صادرات الدول الاخرى التى لم تخفض القيمة الخارجية لعملتها , و بذلك تستطيع زيادة صادراتها و تخفيض وارداتها , لأن سياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة تؤدى الى جعل الواردات أغلى نسبيا فيحدث ترشيد تلقائى للواردات , وهكذا تمارس
سياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة تأثيرها المزدوج بزيادة الصادرات و خفض الواردات اعتمادا على تنافسية الصادرات و عدم تنافسية الواردات مقومة بسعر صرف للعملة الوطنية أقل نسبيا من أسعار صرف عملات الدول المنافسة , مما يؤدى الى احداث فائض فى الميزان التجارى للدولة التى تنتهج هذه السياسة من جهة , ومن جهة أخرى تؤثرسياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة على حركة السياحة حيث تكون السياحة الاجنبية الوافدة الى الدولة التى خفضت القيمة الخارجية لعملتها امام العملات الأخرى أرخص نسبيا من السياحة الاجنبية الوافدة الى الدول الاخرى التى لم تخفض القيمة الخارجية لعملتها.
وبذلك تستطيع تلك الدول زيادة السياحة الاجنبية الوافدة اليها و تخفض من السياحة المحلية الى الخارج , لأن لسياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة تأثيرها المزدوج بزيادة السياحة الاجنبية الوافدة وخفض السياحة المحلية المغادرة اعتمادا على تأثير سعر الصرف للدولة التى خفضت سعر صرف عملتها الوطنية حيث تكون السياحة الوافدة اليها أرخص نسبيا و المغادرة منها أغلى نسبيا , وهكذا تمارس سياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة تأثيرها المزدوج بزيادة السياحة الوافدة و خفض السياحة المحلية المغادرة اعتمادا على تنافسية أسعار الرحلات السياحية مقومة بسعر صرف العملة الوطنية بعد تخفيضه ,مما يؤدى الى احداث فائض فى ميزان المعاملات غير المنظورة بميزان مدفوعات للدولة التى تنتهج سياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة.
وتمارس كبرى الدول المتقدمة سياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة بفاعلية كبيرة لأن مرونة عرض الجهاز الانتاجى بها كبيرة جدا بحكم التنوع الهيكلى والتقدم التكنولوجى الكبير فى السيطرة على التكاليف و رفع الانتاجية , وتلك هى الشروط اللازمة لنجاح هذه السياسة , لذلك لم و لن تنجح سياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة فى الدول النامية و منها مصر , ويفسر ذلك الفشل المتكرر لتخفيض القيمة الخارجية للجنية المصرى منذ 29-1-2003 و حتى الأن , لأن مقومات هذه السياسة لا تتوفر فى الاقتصاد المصرى لكونه ببساطة اقتصاد استيرادى لديه عجز مزمن و متزايد و هيكلى فى الميزان التجارى و جهازه الانتاجى جامد وعديم المرونة , لذلك فان تخفيض فى قيمة الجنيه ستؤدى الى ارتفاع فى الأسعار و بنسب أعلى من قيمة الخفض فى قيمة الجنيه و لن تزيد الصادرات و لا السياحة و لا أى شئ اللهم الا ألام الفقراء من وطأة الغلاء و الاستغلال.
و تحرص كل من الصين و اليابان على المحافظة على أسعار صرف اليوان و الين منخفضة نسبيا عن الدولار الأمريكى لتكون صادراتها أكثر تنافسية من الصادرات الامريكية , و ذلك بتطبيق سياسات نقدية مؤداها جعل كل من اليوان و الين عملات غير جديرة بالاحتفاظ عن طريق تخفيض أسعار الفائدة عليها بمنحها أسعار فائده سالبة أى أقل من معدلات التضخم السارية و/ أو زيادة المعروض النقدى منها فى الاسواق العالمية لتخفض من اسعارها بطريقة اصطناعية.
ولقد طرح صراع حرب العملات العالمية مؤخرا على أجندة اجتماعات دول مجموعة العشرين لأن هذه الحرب تشكل خطورة و اختلالات كبيرة تضر بالاقتصاد العالمي برمته , و حاولت الولايات المتحدة تمرير مقترح مؤداه تخفيض فائض الحساب الجاري للدول ذات الفوائض الكبيرة ( الصين و المانيا و اليابان ) مع و ضع سقف للعجز يماثل عجز ميزان الحساب الجاري الأمريكي , لكن هذا المقترح الامريكى قوبل بالرفض من دول المجموعة , لأن تخفيض فائض الحساب الجاري للدول ذات الفوائض و هى الصين و المانيا و اليابان يتضمن فى كل من جوهره و ظاهره تنازل كل من المانيا و الصين و اليابان عن جزء من حصتها من التجارة الدولية لصالح الولايات المتحدة بموجب اتفاق ملزم للدول ذات الفوائض و غير ملزم للولايات المتحدة ’ لأنها ببساطة تعانى من عجز فى الحساب الجاري يبلغ 4 %, و أرادت الولايات المتحدة وضع سقف محدد وملزم بأن لا يزيد فائض الحساب الجاري لأي دولة ،أو يقل عجز الحساب الجاري لها عن 4 % من الناتج المحلي الاجمالي .
لذلك لن تكون هناك أية التزامات على الولايات المتحدة لأن لديها عجز فعلى بميزان الحساب الجاري بنفس النسبة أى4 % , بل ستقع الالتزامات على عاتق الدول ذات الفوائض و هى الصين و المانيا و اليابان لتخفض فائض الحساب الجاري الى ما دون 4 % خلال عامين , لكن هذا المقترح الامريكى الساذج و المكشوف لم تؤيده الا انجلترا و على مضض , بينما رفضته باقى دول مجموعة العشرين و بالاجماع.
و تشتد حرب العملات ضراوة بين الولايات المتحدة و الصين , فالولايات المتحدة تضغط على الصين لتعويم اليوان ليرتفع سعر صرفه أمام الدولار , و بذلك تكون الصادرات الامريكية أرخص نسبيا من الصادرات الصينية التى ستكون أغلى نسبيا من الصادرات الامريكية , والهدف الأمريكي واضح تماما، وهو ترك الدولار ينخفض أكثر لزيادة الصادرات الأمريكية للعالم وتقليل قيمة ديون الامريكية للعالم لتتمكن الولايات المتحدة من الاستمرار في الاقتراض بدون توسيع العجز في الموازنة بزيادة عجز الحساب الجاري والذى سيتحول الى فائض عندما تزداد الصادرات الامريكية على حساب الصادرات الصينية فى حالة ترك الصين لليوان ليرتفع سعره طبقا للطلب الامريكى , لكن هيهات أن يرضخ المارد الصينى لذلك!!
و تتهم الولايات المتحدة الصين بأن قيمة اليوان الصينى أقل من قيمته الحقيقية بنسبة تتراوح بين 15% الى 25 % و تطالب بكين برفع سعر صرف اليوان الصينى أمام الدولار بنفس النسبة السالفة الذكر , وتسخر الولايات المتحدة الميديا الاعلامية الكبيرة و الاعلام الاقتصادى الغربى للضغط على الصين لاجبارها على التخلى عن السياسة النقدية التى تطبقها لتحافظ على اقتصادها باليوان المنخفض , كما تتهم الولايات المتحدة اليابان أيضا بنفس الاتهام , حيث تتدخل اليابان في سوق صرف العملات بشكل يومى للحفاظ على الين من الارتفاع أمام الدولار حتى لا يتعدى حاجز أو سقف 80 ين للدولار الامريكى , بينما تستحل الولايات المتحدة الامريكية لنفسها محاصرة روسيا الاتحادية اقتصاديا حتى فقد الروبل حوالى ثلث قيمته و هوت أسعار البترول الى 50% من قيمتها خلال عام واحد مكبدة كافة الدول البترولية خسائر فادحة, أنها البرجماتية الامريكية!!
وخلال الأيام القليلة الماضية فجرت الصين مفاجاة مدوية هزت الأوساط الأقتصادية العالمية و أشعلت مجددا فتيل حرب العملات العالمية , اذ قامت بتخفيض قيمة اليوان الصينى بنسبة 4 % دفعة واحدة , ويعد هذا التخفيض بمثابة أكبر خفض لليوان فى تاريخه , حيث كانت الصين تخفض قيمته من اّن لاّخر بما لا يتجاوز 2% , و أقدمت الصين على هذا الخفض التاريخى لقيمة اليوان بهدف رفع معدل نمو الاقتصاد الصينى الى 7% اعتمادا على تنافسية صادراتها وعدم تنافسية وارداتها اعتمادا على التأثير المزدوج لسياسة تخفيض القيمة الخارجية للعملة , وذلك بعد ظهور مؤشرات قوية تكشف تراجع معدل النمو الاقتصادى فى الصين لاقل من 7% و أرادت بهذا الاجراء رفع معدل النمو الاقتصادى ليتجاوز حاجز ال 7% بنهاية العام الحالى 2015 و الذى أوشك على الانتهاء, حيث سجل معدل النمو الاقتصادى فى الصين خلال العشرة سنوات الماضية أعلى معدلات النمو فى العالم بمعدلات تتراوح بين 7% و11% و تأبى أن يقل عن 7% العام الحالى 2015 , لذلك أقدمت على هذا الخفض الكبير لليوان ضاربة عرض الحائط باتهامات الولايات المتحدة و أخوتها .
أما عن تأثير تخفيض اليوان الصينى بنسبة 4 % على الاقتصاد المصرى , فان ذلك سيكون تأثيرا هامشيا أو يكاد يكون عديم التأثير لأن الصادرات المصرية لا تقوى على منافسة المنتجات الصينية , فضلا عن عدم قدرة المنتج المصرى على المنافسة فى الأسواق العالمية بشكل عام , أما المخاوف التى أثارها البعض من اغراق السوق المصرى بالمنتجات الصينية تأثرا بهذا الخفض , فان ذلك غير وارد فى ظل القيود التى فرضها البنك المركزى مؤخرا على سوق الصرف و تحجيم الاستيراد بتضييق الخناق على شركات الصرافة ووضع سقف شهرى لايداع العملات الاجنبية بالبنوك بما لا يجاوز 50 ألف دولار و بحد اقصى 10 اّلاف دولار يوميا او ما يعادلها بالعملات الاجنبية الأخرى.
و يكشف المنطق الاقتصادى عن تناقض حرب العملات مع الفائض فى ميزان المدفوعات , فعندما تحقق الدولة فائضا فى ميزان المدفوعات فان الطلب على عملتها يزيد تلقائيا و ترتفع أسعار صرفها أمام العملات الاجنبية الاخرى ذات العجز فى ميزان المدفوعات , و العكس صحيح تماما عندما تحقق الدولة عجزا فى ميزان المدفوعات فان الطلب على عملتها يقل و تنخفض أسعار صرفها أمام العملات الاجنبية الأخرى للدول ذات الفائض فى ميزان المدفوعات , ولكن تريد الدول ذات الفائض فى ميزان المدفوعات أن تقلب القوانين الاقتصادية بأن يزداد الفائض فى ميزان المدفوعات وتنخفض أسعار صرف عملاتها أمام العملات الاجنبية فى و قت واحد ( وهذا مستحيل اقتصاديا ) , لذلك تلجا الى التلاعب فى أسعار الصرف باستخدام اليات حرب العملات و المضاربة عليها فى اّن واحد.
و لعل الدرس المستفاد من حرب العملات العالمية أن الدول الكبرى تتخذ كافة السياسات النقدية لحماية اقتصادها و هى من أكثر الدول ليبرالية اقتصادية , بينما نتبنى نحن سياسات نقدية ضد مصالحنا الاقتصادية بالتخفيض المتكرر لسعر صرف الجنية المصرى أمام العملات الاجنبية و باستخدام سياسات بعيدة كل البعد عن واقعنا الاقتصادى و تداعياته , لذلك لم و لن تنجح هذه السياسات لأنها لم تتدارك خصوصية الاقتصاد المصرى , ذلك الاقتصاد الاستيرادى الذى يستهلك ضعف ما ينتج !!.
CNA– مقال بقلم ،، أحمد الألفى ،الخبير المصرفى المصرى