مقال .. بنك “بريكس” .. وصياغة نظام مالى عالمى جديد
مجموعة دول بريكس هى اختصار للأحرف الأولى باللغة الأنجليزية لأسماء الدول الخمسة صاحبة أعلى وأسرع معدلات النمو الاقتصادى فى العالم وهى البرازيل و روسيا و الهند و الصين و جنوب افريقيا , و يبلغ عدد سكانها 40 % من سكان العالم , و تسيطر دول المجموعة على 21 % من الناتج الاقتصادي العالمي وعلى 15% من حجم التجارة الخارجية العالمية , كما تجذب نحو 50%من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم.
و قد وقع قادة دول مجموعة بريكس مؤخرًا على وثيقة طال انتظارها لإنشاء بنك للتنمية برأسمال 100 مليار دولار ، وتكوين احتياطات مالية تبلغ قيمتها حوالى 100 مليار دولار لمواجهة سلبيات مؤسسات الإقراض الغربية و فى مقدمتها صندوق النقد و البنك الدوليين و الاتحاد الاوربى , وكانت دول المجموعة قد طالبت مرارًا باصلاح كل من صندوق النقد والبنك الدوليين , و ذلك بمنح حق تصويت متوازن للدول الاعضاء و انهاء سيطرة كل من الولايات المتحدة و انجلترا على القرارات فى مجلس ادارة كل من صندوق النقد و البنك الدوليين .
إلا أن هذه الدول لم تستجب له لهذه الدعوات لأنها ببساطة ضد فلسفتها البرجماتية الاقتصادية و السياسية
ويقوم بنك التنمية الجديد بتقديم التمويل لمشروعات البنية التحتية و مشروعات التنمية في دول بريكس ، وعلى عكس صندوق النقد والبنك الدوليين، فإن كل دولة من دول بريكس سيكون لها حصة متساوية فى رأسمال البنك بصرف النظرعن حجم الناتج المحلي الإجمالي للدولة العضو فى البنك.
مما يعنى تكافؤ القوة التصويتية للدول الأعضاء على القرارات التمويلية بمجلس ادارة البنك وعدم سيطرة أى من دول المجموعة على كل من السياسة و القرارات التمويليىة للبنك مما يجعله أكثر ديمقراطية من كل من صندوق النقد والبنك الدوليين , حيث تسيطر عليهما الولايات المتحدة سيطرة تامة نظرا لملكيتها للحصة الأكبر فى رأس مال كل منهما.
و قد اتفقت الدول الأعضاء على أن يكون المركز الرئيس للبنك في مدينة شنجهاي الصينية، حيث ستتولى الهند رئاسة البنك خلال السنة الأولى، بينما تتولى روسيا رئاسة المجلس التمثيلى للدول الأعضاء، وستقوم كل دولة بإيفاد وزير المالية أو محافظ البنك المركزي لتمثيلها رسميا فى مجلس ممثلي البنك.
وتهدف دول مجموعة البريكس من انشاء هذا البنك الى احداث تغيير جذرى فى كل من النظام المالى العالمى و السياسات المالية و الاقتصادية العالمية من أجل تعزيز النمو الأقتصادى و ذلك باتاحة التمويل سواء لدول المجموعة أو للدول النامية الأخرى التى أرهقتها و أذلتها السياسات التمويلية لمؤسسات الاقراض الدولية الغربية على مدى ما يزيد عن نصف قرن.
و لا شك أن انشاء هذا البنك سوف يسهم فى صياغة نظام مالى عالمى جديد متعدد الاقطاب بدلًا من النظام المالى الحالى وحيد القطب الذى يتخذ من الولايات المتحدة مركزا له و يتعامل بعملتها الدولار الامريكى كعملة دفع عالمية ذات قبول دولى عام مما جعل العالم كله رهين أو أسير للسياسة النقدية الامريكية – على حد تعبير الرئيس الروسى بوتن .
ويترتب على ذلك أن هذا البنك لن يكون مجرد مؤسسة مالية دولية متعددة الأطراف للتنمية تضاف أو تنافس مؤسسات التمويل الدولية القائمة , بل سيعمل على ايجاد اّليات تمويلية جديدة لتمويل التنمية المستدامة سواء في دول المجموعة أو فى غيرها من الدول الناشئة والدول النامية التى عانت كثيرا من مساوئ السياسات التمويلية لمؤسسات الاقراض الدولية و الغربية من جهة , ومن جهة أخرى سوف يعزز و يدعم من مكانة دول بريكس على المستوى الدولى كلاعب رئيسي على المسرح المالى العالمى.
و ربما يؤدى نجاح هذا البنك الى أفول مؤسسات التمويل الدولية الغربية التى أغرقت الدول النامية فى الديون و الفقر بسياساتها المالية الليبرالية و اليمينية المفرطة.
كما وافق قادة تجمع دول البريكس أيضا على إنشاء صندوق تمويل للأزمات بقيمة 100 مليار دولار، تساهم فيه الصين بنصيب الأسد بما قيمته 41 مليار دولار، بينما تصل حصة روسيا، والبرازيل، والهند، إلى 18 مليار دولار لكل منهم على حده، بينما تساهم جنوب إفريقيا بـ 5 مليار دولار , وذلك بهدف تكوين احتياطات مالية سائلة تمثل صمام الأمان الذي يمكِّن دول البريكس من مواجهة التحديات و الأزمات المالية الطارئة مثل الأزمة المالية العالمية لعام 2008 , ولاسيما أنها وشيكة التكرار بسبب أزمة الديون السيادية و افراط كبرى دول العالم فى الاقتراض و فى مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية و فرنسا و ايطاليا و اليونان و اليابان و البرتغال و اسبانيا فى ظل انهيار أسعار البترول و دخول الدول البترولية الى سوق الاقتراض العالمى.
و لكن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة فى هذا السياق , هل سيكون بنك التنمية لمجموعة دول البريكس أداة لبسط النفوذ السياسى لدول المجموعة عن طريق بوابة الاقتصاد على غرار الدور السياسى لكل من صندوق النقد والبنك الدوليين فى فرض الهيمنة الامريكية الاقتصادية على مقدرات العالم الثالث و لا سيما فى دول امريكا الجنوبية ؟
بالتأكيد سيكون لبنك التنمية لمجموعة دول البريكس دورًا مهما فى بسط النفوذ السياسى لدول المجموعة عن طريق بوابة الاقتصاد اعمالاّ للعلاقة الوثيقة بين الاقتصاد و السياسة , فهما وجهان لعملة واحدة و لاسيما على مستوى الاقتصاد الدولى , حيث سيمكن هذا البنك كل من روسيا و الصين من التغلغل فى اسواق امريكا الجنوبية عبر البرازيل – احدى دول المجموعة -, ومن المعروف أن دول امريكا الجنوبية تعد بمثابة ظهير اقتصادي و امتداد طبيعي للاسواق والاستثمارات الامريكية.
و قد قام رئيسا الصين و روسيا مؤخرا بزيارة كبرى دول امريكا الجنوبية و لاقت زيارتهما ترحيبا سياسيا و اقتصاديا و شعبيا كبيرا جدا مما أزعج الولايات المتحدة كثيرا , ويحدثنا التاريخ الاقتصادى المعاصر عن الدور التخريبى الكبير لكل من الشركات الامريكية و صندوق النقد والبنك الدوليين لاقتصاد دول امريكا الجنوبية و اغراقها فى الديون خلال ثمانينات و تسعينات القرن العشرين.
لذلك فان المناخ السياسى و الاقتصادى و الشعبى مهيأ تماما لتعزيز التعاون بين دول البريكس و دول امريكا الجنوبية, ومن ثم فان احتمالات تراجع التغلغل السياسى و الاقتصادى للولايات المتحدة فى امريكا الجنوبية و احلاله احلالا مباشرا بالشراكة مع دول البريكس تعد احتمالات كبيرة و قابلة للتحقق ربما خلال عقد واحد من الزمان و يكون لبنك التنمية لمجموعة دول البريكس دورا مهما فى الاسراع بذلك عن طريق تقديم التمويل الذى يعد بمثابة الأداة الأكثر أهمية لأحداث التنمية الاقتصادية.
و لا يختلف الوضع كثيرا فى افريفيا عنه فى امريكا الجنوبية الا أن إفريقيا لا تزال قارة بكر وغنىية بالموارد الطبيعية الغير مستغلة اقتصاديا بسبب نقص كل من التمويل و التكنولوجيا , و قد أدركت الصين ذلك مبكرا و وجهت استثمارات مباشرة الى بعض الدول الافريقية و تنافسها فى ذلك الولايات المتحدة الامريكية , الا أن وجود جنوب إفريقيا في مجموعة البريكس يؤمن منفذ طبيعى للمجموعة للنفاذ إلى الأسواق والموارد الطبيعية الإفريقية .
و يترتب على ذلك أن العلاقات الاقتصادية لدول البريكس مع بعض الدول الأفريقية سوف تساعد فى زيادة تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الى دول القارة الأفريقية، مما يزيد من الآفاق الاقتصادية المستقبلية للقارة السمراء الغنية بالموارد الطبيعية و الفقيرة فى الاستثمارات.
و نأمل أن لا يتحول الصراع الاقتصادي بين دول البريكس و الغرب إلى صراع سياسي كامل على حساب الدول النامية التى عانت من الهيمنة الغربية على مؤسسات التمويل الدولية , وقد تجلى ذلك عندما ضغطت الولايات المتحدة الامريكية على البنك الدولى ليسحب موافقته على تمويل السد العالى فى مصر بسبب مواقفها السياسية المناهضة للاستعمار , حيث أدت هذه الممارسات الى فشل صندوق النقد والبنك الدوليين فى الدول النامية بسبب تغليب الدور السياسى على الدور الاقتصادى لهما , ونأمل أن يكون أداء بنك مجموعة دول البريكس مختلفا أداء مؤسسات الإقراض الدولية الغربية و ذلك باعمال التوازن بين الدور السياسى و الاقتصادى للبنك .
أما نحن العرب , فلدينا المال والموارد الطبيعية و القوة البشرية و السوق الكبير, ومع هذا فلم نفكر فى إنشاء بنك عربى كبير للتنمية على غرار هذا البنك , وبرغم وجود عدة صناديق و بنوك عربية للتنمية الاقتصادية , الا أنها مجرد كيانات متناثرة و رؤس أموالها صغيرة جدا بالنسبة لمتطلبات التنمية الاقتصادية فى العالم العربى الذى تعانى معظم دوله – باستثناء الدول العربية البترولية الثمانية – من عجز كبير فى الموارد المالية اللازمة لتمويل برامج التنمية الاقتصادية فيها , مما أدى الى وقوع العديد من الدول العربية غير البترولية تحت قبضة مؤسسات التمويل الغربية الدولية و أخوتها.
CNA– مقال بقلم ،،أحمد الألفى ،الخبير المصرفى المصرى
[box type=”info” ]الكاتب .. مصرفى يعمل مديرًا بأحد البنوك المصرية .. له مؤلفات عديدة فى المجالات المصرفية والمالية [/box]