مقال .. الشفافية على الطريقة الاسكندنافية
كشف تقرير صادرعن معهد مراقبة الموارد REVENUE WATCH بنيويورك عن وجود خلل في سياسات الحوكمة والشفافية في ادارة الموارد الطبيعية حول العالم ، ويكشف مؤشر إدارة الموارد (RGI) الذي يقيس أداء 58 دولة في إدارة مواردها الطبيعية بقطاعات البترول والغاز والتعدين أن معظم الدول المدرجة بهذا المؤشر لديها قصور شديد في إدارة مواردها الطبيعية .
ويبلغ القصور مداه في الدول الأكثر اعتماداً اقتصاديا على الموارد الطبيعية الأولية كالسعودية و قطر و الكويت، بينما تصدرت النرويج والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قائمة الدول الأكثر التزاما بمعاييرالحوكمة والشفافية التى تأسس عليها التقرير السالف الذكر وهى المركز المؤسسي والقانوني والإجراءات الوقائية ومعايير مراقبة الجودة والبيئة المهيئة للعمل.
ولسنا بصدد اجراء مقارنة بين الدول التى اعتلت قمة المؤشر وبين تلك التى سقطت فى قاعه، ولكن ينصب اهتمامنا على الدول الاسكندنافية دول الرفاهية الاقتصادية و الاجتماعية بفضل تبنى فكر اقتصاد السوق الاجتماعى كنظام اقتصادى كفل تحقيق العدالة الاقتصادية و الاجتماعية و قلم أظافر توحش الرأسمالية الطاغى فى معظم دول العالم حتى بات الفقر ظاهرة عالمية متنامية تسحق شعوب الارض حتى فى أكثر الدول ثراءًا و ليبرالية بسبب تركز الثروة و تشوه التوزيع التكرارى للدخل القومى.
و تكشف المواقف التالية النقاب عن تفعيل اّليات الشفافية والحوكمة فى الدول الاسكندنافية بشكل ينهض و يرتقى بالمجتمع و يرسخ مبادئ العدالة و المواطنة :-
- أجبرت الوزيرة السويدية مانا سالينعلى على الاستقالة من منصبها لأنها نسيت بطاقتها الائتمانية الشخصية و هى متوجهة للعمل و قامت باستخدام البطاقة الائتمانية الحكومية فى تموين سيارتها بالبنزين بمبلغ يعادل 60 دولار امريكى ، و فى صباح اليوم التالى ردت المبلغ لخزينة الدولة من تلقاء نفسها و لكن القانون السويدي اعتبر ذلك استغلالا للمال العام.
فاجبرت على تقديم استقالتها فورا ( ويلاحظ أن الوزيرة تذهب لعملها بسيارتها الشخصية بلا مواكب و لا سائقين و لا حراس و لا بدلات و لا و لا …….الخ .. ترى كم وزير فى بلادنا يستخدم سيارته الشخصية فى الذهاب الى العمل ؟ أعتقد لا أحد ! ).
- شاركت وزيرة الثقافة السويدية لينا أديلسون في حفل يناهض ظاهرة ختان الاناث فى افريقيا حيث قامت بتقطيع جزء من تورتة تتخذ شكل دمية لجسد أمراة افريقية قبلية سوداء تصرخ و تستجير أثناء خضوعها تمثيليا لعملية ختان، وذلك ضمن مراسم الحفل وبدت على الوزيرة السعادة وهى تقطع جسد تورتة دمية المرأة الافريقية المختونة .
ولم تمر هذه الواقعة التى تسببت فى احراج الحكومة السويدية مر الكرام ، بل تم توجيه اتهام شعبى و رسمى بالعنصرية للوزيرة السويدية ( و يلاحظ أن الوزيرة أدينت فى مشهد تمثيلى وهى تناهض بفكرها وعملها ظاهرة ختان الاناث , وفى الواقع العملى لم تمارس العنصرية ).
- قررت الحكومة السويدية فصل أنخيليس بيرموديس المدير العام لمكتب العمل، بعد أن أعرب مجلس إدارة المكتب عن عدم ثقته فيها بسبب فواتير الهاتف المحمول الحكومى الكبيرة الذي تستخدمه بيرموديس في مكالماتها الخاصة برغم أنه مخصص للعمل فقط ( لا حظ عزيزى القارئ أن هذه المسئولة الكبيرة فقدت منصبها لمجرد استخدام التليفون الحكومى فى مكالمات شخصية ، ترى كم مسئول فى بلادنا لايستخدم تليفونات العمل فى مكالماته الشخصية ؟ أعتقد لا أحد !).
- يعد صندوق الثروة السيادية النرويجي أكبر صندوق سيادي فى العالم و يدير ثروة النرويج النفطية الضخمة و باشراف البنك المركزي النرويجي، وتقارب قيمة الأموال التى يديرها بنجاح 1000 مليار دولار، كما يعد أكبر المستثمرين السياديين في العالم حيث يمتلك الصندوق أسهم في حوالى 10000 شركة عبر الحدود.
ويستحوذ على حوالى 2% من اجمالى الأسهم العالمية المتداولة فى البورصات العالمية , و أعلن الصندوق مؤخرا عن انسحابه من الاستثمار فى القطاعات الاقتصادية الملوثة للبيئة مثل الفحم و زيت النخيل و التعدين و التبغ , كما اعلن أيضا انسحابه من الاستثمار فى صناعة الأسلحة و لاسيما الأسلحة النووية , كما باع الصندوق النرويجى أسهمه فى الشركات التي تنتهك حقوق الإنسان و المتورطة في قضايا فساد ،و تعكس هذه السياسة الاستثمارية أبعادًا أخلاقية و حقوقية يندر أو ربما ينعدم وجودها فى عالم المال و الأعمال على الصعيدين المحلى و الدولى معًا.
- حصل جون فرديريكسن أغني رجل أعمال في النرويج وأمبراطور الشحن البحري والزراعة المائية على الجنسية القبرصية ليتجنب دفع كل من ضرائب الدخل المرتفعة وضريبة التركات التي سيدفعها ورثته بعد وفاته حال أيلولة ثروته اليهم طبقا لقانون الضرائب النرويجى الصارم.
ويعد جون فرديريكسن أكبر رجال الأعمال هوساً بالقوانين الضريبية في العالم و أكثرهم تجنبا لدفع الضرائب بأسلوب قانونى و شرعى ( حيث يختلف التهرب الضريبى عن التجنب الضريبى فى أن ألاول مجرم قانونا فى جميع الشريعات , بينما الثانى غيرمجرم قانونا لأنه يعتمد على مهارة الممول فى تفادى الاستثمار فى كل من الأنشطة و الدول ذات الشرائح الضريبية المرتفعة ) .
ولم تتخذ الحكومة النرويجية أية اجراءات تعسفية ضده لأن موقفه الضريبى سليم قانونا ،فضلا عن كونه لا يعيش في النرويج منذ سنوات طويلة، فلم يكن يدفع الضرائب للنرويج طوال سنوات غربته لأن قانون الضرائب النرويجى يقوم على مبدأ اقليمية الضريبة ( كقانون الضرائب المصرى) وليس على جنسية الضريبة ( كقانون الضرائب الامريكى) ويلزم قانون الضرائب النرويجى الشفاف ادارة الضرائب بالافصاح عن الضرائب التى يسددها كل ممول خاضع للضريبة سواء كان شخصا طبيعيا أو اعتباريا و ذلك على الموقع الالكترونى لادارة الضرائب ليعلم المجتمع كله مساهمة جميع أفراده فى تمويل الخزانة العامة.
ولا شك فى أن هذه المواقف لا تعد مجرد مواقف فردية بقدر كونها مبادئ و قيم حاكمة للتقدم الاقتصادى والاجتماعى و الاخلاقى فى مجتمعات لم تكن يوما مهدًا للحضارات و لا للأديان السماوية التى اتفقت تعاليمها جميعا على فضيلة العدل و المساواة والنزاهة و مكارم الاخلاق.
ويتجلى ذلك عندهم فى مبدأ احترام القانون الوضعى فلا يوجد لديهم أى كيان أو هيئة منزهة من الخضوع للرقابة المالية حتى لو كان البلاط الملكى فهو غير محصن رقابيًا ،حيث تتخذ هذه الدول من الملكية الدستورية كنظام للحكم فيها و بارادة الشعب، وبرغم معاناة الدول الاسكندنافية من قسوة الطبيعة و تمتع بلادنا بحنان الطبيعة و فيضها، الا أنهم كانوا أكثر حنانا على أوطانهم من قسوة الطبيعة و الجليد الدائم عليهم , بينما جحدنا نحن حنان الطبيعة علينا بالقسوة على أوطاننا بعتامة الفساد و الغشاوة المالية.
ترى قارئى العزيز ،هل تنتظر من شعوب تختزل الأديان السماوية التى تؤمن بها بارادتها الحرة فى الشعائر فقط أن تحترم القوانين الوضعية التى سنها حكامها ؟؟
أعتقد أن ذلك سوف يتحقق عندما تندلع ثورة أخلاقية على الذات و ليس باندلاع ثورات شعبية على أنظمة الحكم السياسية.
CNA– مقال بقلم ،، أحمد الألفى ، الخبير المصرفى
[box type=”info” ]الكاتب .. مصرفى يعمل مديرًا بأحد البنوك المصرية .. له مؤلفات عديدة فى المجالات المصرفية والمالية [/box]