مقال| الدين الخارجى.. القلق الكاذب
مؤكد أنه لا أحد يحبذ فكرة التوسع فى الديون سواء كانت خارجية أو داخلية فكلنا يعرف أن الديون هم بالليل ومذلة بالنهار..ونحن فى هذا المقال لسنا بصدد الدفاع عن الديون فلا توجد مدرسة اقتصادية فى العالم تؤيد هذا التوجه ولكن هذا هو الواقع الذى فرضته علينا النتائج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لثورتى يناير ويونيو.
لذلك فلا مفر لمحاولة الإجابة عن سؤال مشروع تتوه الإجابة عليه بين فريقين كلاهما أعمى.. الأول يرى الرقم كافٍ جدا لاشباع شهية التشويه والتضليل وبث السموم فى ظل بلوغ الدين الخارجى 79 مليار دولار بزيادة 45 مليار دولار عما كان عليه قبل ثورة 25 يناير.. أما الفريق الثانى فيبرر دون علم ومعرفة ويسطح الأمور دون أن يعطينا عاملا أو سببا حقيقيا لشرح وجهة نظره.. وبعيدا عن هذا وذاك نحاول الإجابة عن السؤال الجوهرى.. هل مستويات الدين الخارجى مقلقة؟.
وبالحسابات الاقتصادية والمالية الموضوعية لمعطيات الاقتصاد المصرى وبتفنيد مكونات هذا الرقم (79 مليار دولار) نستطيع ان نقول ان الدين الخارجى لا يستحق كل هذا القلق لعدة اسباب موضوعية.. أولها أن نسبة الديون قصيرة الأجل (هى الديون التى تستحق السداد قبل عام) تمثل 14.5% فقط من جملة الدين الخارجى يعنى 12.3 مليار دولار وهذا هو مربط الفرس فى تحديد مستوى الخطورة وهذا الكلام طبقا للمعايير الاقتصادية الدولية.. لأن خطورة الديون الخارجية بهذه المعايير تظهر عندما تقل نسبة تغطية الاحتياطى النقدى الأجنبى للديون قصيرة الأجل عن 100% وفى الحالة المصرية نسبة التغطية تتعدى290% لأن الاحتياطى الأجنبى وصل إلى 36.5 مليار دولار بنهاية سبتمبر الماضى.
إذن المعايير الحاكمة والأساسية فى هذة المسألة هى ضمانات استدامة تدفق النقد الأجنبى من موارده الأساسية بالإضافة إلى ضبط العجز فى ميزان المدفوعات.. يعنى أيه الكلام ده؟ يعنى نبص على مؤشرات مصادر العملة الأجنبية فى اقتصادنا وأهمها واخطرها الاستثمار الأجنبى المباشر والصادرات ثم تحويلات المصريين والسياحة وقناة السويس وبالنظر الى ارقام الاستثمار الأجنبى المباشر نرى أنه وصل لأرقام مبشرة جدا وتضاعف ليصل إلى 6.9 مليار دولار رغم الظروف ومعاناة بنية الاقتصاد المصرى من تشوهات فى مراحلها المتأخرة كان العلاج الأكثر اثرا فيها وسرعة لصالح روشتة الإصلاحات المالية فقط.
وهو ما يجعلنا أمام توقعات لأرقام أكثر تفائلا للاستثمار الأجنبى المباشر مع تجرع روشتة الإصلاح الاقتصادى بجانب الإصلاحات المالية التى تمت وتتمثل الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية فى بدء تطبيق قانون الاستثمار الجديد واحسن ما فيه هو تنبه قريحة الحكومة إلى شرط مهم جدا سوف يوفر نزيف العملة الأجنبية وهيفرق كتير لصالح الاقتصاد وهو اعتماد المستثمر الأجنبى على موارده الذاتية لتوفير رأس مال مشروعه بالعملة الأجنبية دون الاعتماد على البنوك المصرية.
من المعايير الحاكمة لتبديد القلق أيضا زيادة الصادرات وبنظرة على أرقام صادراتنا غير البترولية من شهر يناير حتى سبتمبر الماضى هنشوف أن الصادرات سجلت 16.4مليار دولار مقابل 14.8 مليار دولارعن نفس الفترة بزيادة 11%.
أما مؤشر تراجع الورادات فإنه يمثل أهمية خاصة لتحقيق التراجع المطلوب فى عجز ميزان المدفوعات وده طبعا بدأ يتحقق وتظهر مؤشراته لأنه الهدف الأساسى من فلسفة الإصلاحات المالية إلى اتخذها البنك المركزى والتى سوف تنمو بقوة الدفع الذاتى لأن تكلفة الاستيراد النهاردة أصبحت أكثر بكثير من المنتج المحلى وهذا ما جعل كثيرًا من المستوردين يتحولون إلى منتجين كما أن كثيرًا من المصانع القائمة توسعت فى الإنتاج لتعويض نقص المنتجات المستوردة وهذا واضح بلغة الأرقام لأن ببساطة هناك نموا ملحوظًا فى حجم استيراد المعدات الرأسمالية (الات الإنتاج) وهو ما جعل الواردات تتراجع من 49.7 مليار دولار إلى 39.8 مليار دولار بنسبة تراجع بلغت 20% خلال الـ9 أشهر الماضية.
كما أن تحويلات المصريين فى الخارج لم تعد تجد مكانًا أفضل من خزينة البنوك الأمر الذى يساعد فى زيادة حصيلة العملات الأجنبية مع السياحة التى بدأت تتعافى بعودة الأسواق الأوروبية الرئسية وهى الأسواق التقليدية للسياحة المصرية التى تشكل نحو70% من حركة السياحة لمصر.. إن الحفاظ على استدامة المؤشرات الإيجابية للمصادر الاقتصادية السابقة ونموها هو الضمانة الأساسية لسداد باقى التزاماتنا الخارجية طويلة الأجل (67.7مليار دولار) حتى وأن كان جزءًا كبيرًا منها يستحق بعد 10 و20 عاما.
إن التحدى الحقيقى للاقتصاد المصرى ليس الديون ولكنه الإنتاج ويكفى أن نعرف أن تاريخ الديون لمصر ملىء بالمفارقات والمتناقضات فكثير منا لا يعرف أن محمد على باشا بجلالة قدره هو الذى بدأ الدين الداخلى لمصر على الرغم من أنه مؤسس مصر الحديثة ولا أحد يختلف فى أن مصر أيامه اقتربت من مشارف القوى العظمى.
وتتضح تناقضات التاريخ جليا مع الملك فاروق حيث إنه الحاكم المصرى الوحيد الذى لم تكن مصر مديونة فى عهده لا داخليا ولا خارجيا! (سدد ديون الملك فؤاد وداين انجلترا بـ400 مليون جنيه استرلينى) وهو العصر الذى وصف بالفساد والضعف.. اما جمال عبدالناصر فهو الذى أعاد فتح باب الاستدانة الخارجية! وبدأت قصة ديون ما بعد تورة 1952.
CNA– مقال بقلم،، طارق القاضى، كاتب متخصص فى الشأن الاقتصادى بروزاليوسف