“عثمان الخويطر” يكتب: إن بعض سوء الظن بـ “أرامكو” إثم
يثير حفيظتي وتشمئز نفسي كمواطن سعودى أولا، وكأحد المسئولين السابقين في “أرامكو”، عندما أسمع من خلال وسائل الإعلام المختلفة، واصفا لشركة أرامكو السعودية أنها تعاني فسادا داخليا، والله إنها كبيرة يا شباب من مواطنين لم تطأ أقدامهم أرض مرافقها المفتوحة للجميع، ولم يفتحوا في حياتهم صمام بئر بترول، أن يصفوا هذا المرفق الحيوي بالفساد، حتى لو افترضنا أن ذلك من باب الغيرة الوطنية عليها.
وعندما نتحدث عن أرامكو، فهي تلك المؤسسة العريقة العملاقة التي تسابق الزمن في تطورها واتساع مسؤولياتها وتمكنها من عالم الإبداع العلمي والبحثي، وليس أرامكو الحالات الشخصية والفردية التي لا تخلوا منها مؤسسة على وجه الأرض. وأتعجب من إصرار البعض على وجود فساد داخلي، ولو طلبت من أحدهم الدليل لما أجابك، لأنه ببساطة لا يملك ذلك. ومنطقيًّا، كيف يكون فيها فساد ظاهر للعيان ومعروف لديكم ولا يعلمه المسؤولون فيها؟ ومن باب التوضيح، فهناك فئتان. فئة تبني تخيلاتها على ما تسمع من قضايا فردية وشخصية ناجمة عن عدم رضا الموظف في عمله. والأخرى ترمي التهم جزافا من باب ” مع الخيل يا شقرا. ”
فلو كان الفساد، كما يقولون، فعلا مستوطنا في هذه الشركة العملاقة، فهل تتخيلون أن المسئولين في الدولة يتغاضون عن تهديد وخراب أهم ممول للميزانية العامة؟ المنطق السليم وحده ينفي ذلك، وإذا كانت “أرامكو” محل شبهة فساد فماذا نقول عن بقية المؤسسات في المملكة التي هي في الغالب أقل إنجازا وشفافية؟ وبماذا نفسر مثل هذا التجني الذي لا يستند إلى أي مبررات مقبولة ولا شواهد ملموسة؟ هل هو الظن؟ إن بعض الظن إثم.
وهل إن التطور الإداري والتقني والتوسع الكبير في مجالات صناعية جديدة لتصبح “أرامكو” شركة طاقة متكاملة أو إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وذات كفاءة عالية كان نتيجة للفساد؟ فأهلا ومرحبا بالفساد الإيجابي.
شباب “أرامكو”، وهي الشركة البترولية المتميزة في مجالها، أوجدوا من العدم وشيدوا جامعة علمية تضاهي في برامجها ومستواها الأكاديمي والبحثي أرقى الجامعات العريقة في العالم، في غضون زمن قياسي، استنبطوا برامجها الأكاديمية وأسسوا نظم بحوثها وربطها بمراكز بحوث عالمية بموجب اتفاقيات تمت في حينها وسلموا مفاتيحها إلى الإدارة المسؤولة عن تشغيلها.
هل يعبر ذلك الإنجاز الفريد عن فساد في إدارتها أو بين ظهرانيها؟ وأتبعت ذلك بمشروع هو أيضا خارج نطاق تخصصها، تلبية لطلب من ولاة الأمر. أنجزته خلال زمن قصير بمعيار ضخامة المشروع، إنه ملعب الدرة الرياضي في المنطقة الغربية. واعتبرت كليهما إضافة إلى مسؤولياتها الأساسية، الصناعة البترولية.
ولن نتحدث عن مشاركاتها التجارية والفنية مع عدد كبير من الشركات العالمية من أقصى الأرض إلى أقصاها في مجال الطاقة وتكرير البترول والصناعة البتروكيماوية. ولا عن دخولها شريكة فاعلة في مجالات واسعة من الأبحاث العلمية والصناعية، داخل المملكة وخارجها. ولا عن تميز مشاركاتها التثقيفية في أوساط المجتمع، ودورها في تنمية الاقتصاد الوطني عن طريق برنامجها “اكتفاء”.
وهذا البرنامج الذي لم تعلن عنه الشركة إلا بعد تطبيقه ونجاحه يهدف إلى ضرورة إشراك المواطن في توطين الصناعة كشرط أساسي لإمداد متطلبات الشركة من السوق المحلية. وأصبح هذا البرنامج نواة مثمرة ومثلا حيا يحتذى به لـ “رؤية 2030”. وهل يسمح الفساد أن تكون “أرامكو” في مقدمة شركات البترول العالمية سنوات متتالية؟ “أرامكو”، أم الإبداع والاختراعات والكفاءات العالية، لا مكان للفساد فيها. فالفساد، كفانا الله وإياكم شره وعواقبه، جرثومة خبيثة إذا عثت في مجال ما قضت عليه وأفسدت مكوناته وحدت من فعالياته.
“أرامكو”، يا أبناء وطنى، حصلت خلال عام 2016 على 175 براءة اختراع في مجالات علمية ومبتكرات ذهنية، نسبة كبيرة من أصحاب تلك البراءات مواطنون. أي بمعدل اختراع واحد كل يومين تقريبا، فهل يتم مثل هذا الإنجاز الكبير إلا في بيئة صحية؟ و”أرامكو” تدير مرافق متقدمة للتعليم والتدريب والتأهيل للعمل لا تجدها في أي شركة عالمية من أي نوع ولون أو مجال، في أي موقع من العالم.
شركة أرامكو طورت بإمكاناتها الذاتية والبشرية أفضل وأقوى برنامج على مستوى العالم لتحديد خواص ومكونات المكامن واحتياطيات البترول في حقولها العملاقة. فقد حقق فريق تقنية TeraPOWERS في مركز الأبحاث المتقدمة في مركز التنقيب وهندسة البترول في الظهران إنجازا غير مسبوق في صناعة النفط والغاز. حيث تمكن الفريق من تصميم وتشغيل أول نظام من نوعه لمحاكاة المكامن بترليونات الخلايا، وهو إنجاز علمي لا يدرك فحواه وأهميته إلا العلماء والمتخصصون في هذا المجال.
“أرامكو” منذ بداية تطور أعمالها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وهي تتعامل مع مسؤولياتها بحرفية متناهية، ولا تزال، مع حالات وأوضاع هندسية غير طبيعية في الحجم والمقاس. فضخامة الحقول وكميات الإنتاج تحتم الخروج عن نطاق المألوف.
وعند تصميم أحجام الأنابيب والصهاريج والصمامات وأجهزة الضخ لا تجد لها ثوابت وقوانين ولا مثيل في صناعة البترول التقليدية. فتلجأ إلى إحداث تصاميم خاصة بها وغير مسبوقة تلائم وضع عملياتها، تحت ما يسمى CUSTOM MADE. وهذا يتطلب مهارات خاصة ومتميزة وتناغما بين مختلف الجهات في الشركة تساعد على تبني الأفكار البناءة. ولا يتوافر ذلك إلا في بيئة صحية خالية من منغصات الفساد الإداري.
وأنا هنا لا أتحدث من فراغ، فلي معرفة جيدة بـ “أرامكو” ونظمها وبمعظم القائمين عليها. وعموما، “أرامكو” تحارب الفساد بأشكاله وألوانه كأهم أهدافها. وهي ليست مؤسسة نكرة، بل هي الأشهر بين شركات البترول والمرافق الصناعية عالميا ومحليا. ولعلكم تذكرون كيفية ردة فعل جميع المواطنين دون استثناء، حتى الذين كان يخيل إليهم أن الفساد عاثٍ فيها، وقفوا وقفة رجل واحد ضد فكرة تسييل أي جزء منها، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالاحتياطيات البترولية. ذلك لأنها الرمز الأهم بالنسبة إلى المواطن السعودي.
وإنتاج “أرامكو” المتميز ليس فقط محصورا في البترول ومشتقاته، بل أيضا في الموارد البشرية ذات الكفاءات العالية التي يتمنى كثير من المؤسسات أن يكون له نصيب منها. وقد تأسس نظام العمل في الشركة على أساس مبدأ “الرقابة الذاتية”، وهي الطريقة التي لا تسمح لأي دائرة أن تنفرد وحدها باتخاذ قرارات قد تؤدي إلى ضياع المال أو الجهد أو التعامل غير القانوني مع جهات خارجية في أمور تتعلق بمصالح الشركة دون علم وإذن من جهات معنية أخرى. والكمال لله وحده.
فلو افترضنا جدلا أن الشركة رغم جهودها الجبارة لتبقى مثالا يحتذى به في الأمانة والكفاءة، حدثت فيها أخطاء من الممكن أن تنسب إلى ضعاف النفوس من منتسبيها، فلا يجوز بأي حال من الأحوال التعميم. ولدى شركة أرامكو أجهزة مراقبة وكشف، ثم عقاب لا يتمنى أي من موظفيها أن يكون طرفا فيه. وختاما، من يدعي أن “أرامكو” تخلو من الأخطاء البشرية الفردية أو أن كل موظف فيها راضٍ عن وضعه فهو مجاف للحقيقة، هذه سنة الحياة.
وقد تجاوز عمر شركة أرامكو 80 ربيعا، ومع ذلك، فنحن نهرم وهي لا تزال تجدد شبابها المعطاء. وإذا تحدثنا عن تطبيق نظام الحضور والانصراف والتقيد بأمور السلامة فهي “أرامكو” التي عرفناها قبل عقود طويلة.
أرامكو أكبر من أن تُنْعَت بأوصاف لا تليق لا بها ولا بمقام قائلها. أرامكو الجامعة ومصنع الرجال وتاج المملكة وموطن الإنجاز والنظام. أرامكو أكثر من عشرة آلاف مواطن يعملون في حلكة ظلام الليل والناس نيام داخل معامل إنتاج الغاز والبترول والتكرير ذات الخطورة العالية وفوق أبراج الحَفر الهادِرة في عز الشتاء والصيف.
CNA– مقال بقلم ،، عثمان الخويطر، نائب رئيس شركة أرامكو السعودية سابقًا